هيثم منّاع في أطلس اللاعنف
هيثم منّاع في أطلس اللاعنف
العنف يولد العنف والمقاومة المدنية هي البديل لتحقيق العدالة
سمير ناصيف
هل بالإمكان الانتصار على الطغيان وعلى الدول والمجموعات التي تنكل بشعوبها أو بشعوب أو مجموعات أخرى تخاصمها من دون استخدام العنف الميداني والمقاومة العسكرية؟
هذا سؤال يُطرح هذه الأيام أكثر من أي وقت مضى في ضوء الجرائم التي ترتكبها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني بعد عملية «طوفان الأقصى» التي حاولت عبرها المقاومة الفلسطينية استرجاع أراضيها المحتلة من قبل المستوطنين الإسرائيليين وتحرير رفاقها المحتجزين من السجون الإسرائيلية حيث وُضعوا هناك من دون محاكمات عادلة.
الكاتب والناشط في المعارضة السورية الدكتور هيثم منّاع، الذي يرأس حالياً المعهد الاسكندنافي لحقوق الإنسان، مؤسسة هيثم منّاع، خارج بلاده بعدما اضطر قسراً إلى ترك سوريا، تطرّق لهذا الموضوع في كتاب صدر مؤخراً بعنوان «أطلس اللاعنف».
المقاربة الأساسية في هذا الكتاب يتضح فحواها في الصفحة (27) منه حيث يتناول الكاتب موضوع العصيان المدني. يقول مناع: «كان الاستنتاج الأول لكاتب هذه الأسطر أن العنف كوسيلة لنضال المقهور والمقموع أصبح إحدى وسائل تعزيز ضعفه وارتهانه، وصار السلاح أحد محطمي المناعة الذاتية للشعوب ولتمدنها. وقد اصطدم هذا الموقف بموقف الجهاديين والإخوان ومَنْ دعمهم من قادة البلدان الغربية والعربية الخليجية، في عملية فرض تسليح الحراك المدني السلمي في سوريا وليبيا واليمن والعراق. إن العنف (حسب أطروحتنا) يستجلب التبعية ويحطم النسيج الاجتماعي والبنيات التحتية ويحول قطاعات شعبية واسعة إلى لاجئين ومشردين وأيضاً إلى شبّيحة وبلطجية وتجار حرب».
ويستشهد في كتابه بقادة كبار في العالم حققوا غاياتهم السياسية عن طريق المقاومة المدنية السلمية، وبينهم المهاتما غاندي في الهند، ومارتن لوثر كينغ في أمريكا، ونلسون مانديلا في جنوب أفريقيا، ويورد باختصار بعض أقوالهم ومواقفهم بالإضافة إلى مواقف مفكرين ومناضلين آخرين عرب دعوا إلى تحقيق العدالة عن طريق اللاعنف، وبينهم جبران خليل جبران وعبد الله الحامد وعبد الله العلايلي، وغير عرب بينهم الفرنسي جان ماري مولر والآسيويان محمد مندور وعبد الغفار خان.
وينتقد منّاع مبدأ «التكفير» الذي استخدمته مجموعات دينية متعصبة منخرطة في عدد من الأديان والأيديولوجيات. ويرى بأن
- «التكفير ينطلق من أيديولوجية متحجرة ومنظومة مغلقة وتعصب أعمى يبحث عن أعداء يشكلون كبش فداء له في مسيرته».
- وأن «التكفير لدى الإسلاميين المتعصبين لا يختلف عن التكفير لدى المسيحيين المنغلقين على أنفسهم ولا عنه لدى الأيديولوجيين الدنيويين العلمانيين الذين يعتمدون ويمارسون العنف ضد معارضيهم». (ص 37).
- ويذكر في المجال الأخير المكارثيين في أمريكا في خمسينيات القرن الماضي الذين قمعوا الأحرار في البلد من معارضيهم.
- والشيوعيين في زمن الستالينية الذين اغتالوا خصومهم أو سجنوهم في السجون الروسية في مرحلة الاتحاد السوفييتي السابق.
ويقول المؤلف في هذا الحيز إن المتطرفين الإسلاميين في أفغانستان من طالبان وغيرها، لا يختلفون عن أمثالهم من المستوطنين في فلسطين أو الإسرائيليين الذين يؤيدون الاستيطان بالقوة على حساب الشعب الفلسطيني وأراضيه الذين يسميهم «طالبان اليهود» مندداً بشدة بنظرتهم السلبية إلى حق الاختلاف وعنصريتهم. (ص 37).
ويؤكد منّاع بان الإسلام يرفض التكفير بدءاً بالنبي محمد (صلعم) مروراً بالخليفة الرابع علي بن أبي طالب، الذي دفع حياته بعد اغتياله على أيدي تكفيريين وحتى إلى مواقف العلماء المسلمين المتنورين في القرن العشرين وحالياً في القرن الواحد والعشرين، وذلك بالرغم من ان «فتاوى التكفير ما زالت تسرح وتمرح بيننا ويجري تعليم العنف الوارد فيها في بعض المؤسسات التعليمية في البلدان العربية تحت ضغط حكامها وقياداتها السياسية دون أن تأخذ بمواقف الأزهر وكبار الأئمة المسلمين على شاكلة الإمام محمد عبده الذي كان يدعو إلى «احترام العلوم العقلية إلى جانب ممارسة الايمان العميق بالتعاليم الواردة في الكتب الدينية المقدسة».
ويدعو الكاتب إلى تجريم مفهوم «التكفير» الذي يحرض على ارتكاب العنف ضد الخصوم حماية لحرية المعتقد. ولا يكفي برأيه تجريمه بواسطة القوانين المدنية فقط بل يجب التصدي له فكرياً وتربوياً ودينياً في المنابر الدينية والمعاهد التعليمية في العالم العربي والإسلامي، حسب قوله.
وكما بالنسبة للتكفير، من الواجب التعامل بقوة لرفض التعذيب الجسدي للمعارضين والتجسس على حياة الناس الخاصة بصرامة كبيرة، وخصوصاً لأن حكومات العالم عموماً أصبحت تنظر إلى البشر وكأنهم «معنا أو ضدنا» فإذا «كانوا معنا فهم مع الخير، وفي حال كانوا ضدنا فهم مع الشر، وبالتالي يجب قمعهم وسجنهم وتعذيبهم». وهذا التوجه التعسفي ساهمت في تعزيزه مواقف الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن بعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 في نيويورك وواشنطن وبعد الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003 وتصاعد الممارسات المرتبطة بما سمي «الحرب على الإرهاب» والتي طبّعت التعدي على السجناء، حسب قول منّاع.
وبالتالي، أصبحت المقاومة المدنية السلمية (بنظر المؤلف) أصعب مما كانت عليه، «فأضحت حكومات كانت تدّعي الديمقراطية تقبل التضحية بحريات أساسية مقابل نظرية حماية الأمن الداخلي والاعتماد على خبراء من خارج بلدانها للمشاركة في التحقيقات الأمنية في بعض الدول العربية». (ص 47).
وهذا يعني (برأيه) أن «بعض الدول العربية تحولت إلى ميليشيات كبيرة واعتمدت الوسائل اللاأخلاقية وبثت المعلومات الخاطئة لتضليل الرأي العام». (ص 48).
ويرى منّاع أن «حركة درعا السلمية في عام 2011 ضد النظام السوري كانت من أكبر الحركات السلمية المدنية فعالية في تاريخ سوريا والمنطقة، قبل اغتيالها بواسطة العنف. ومَن يزرع الحل العسكري عبر العنف يحصد دائماً العنف المضاد وتدفع الشعوب الحرة الفاتورة الأكبر. فالخيارات العسكرية القاسية اليوم لن تُعطي سوى خاسر/خاسر، والمقاومة المدنية هي الخيار الأفضل كمنهج صمود يستعيد الإنسان من خلالها ما خسر من إنسانيته». (ص 50 ـ 51).
وانطلاقاً من هذا الموقف يقول منّاع: «إن سقوط جدار برلين عام 1989 وتفكك قيادات معسكر وارسو حققته النضالات المدنية هناك، بينما قيام دولة إسرائيل وتوسعها عبر عسكرة المجتمع الإسرائيلي وضمان التفوق العسكري قد طرح وما زال يطرح التساؤلات». (ص 53).
ولا شك بأن توقعات المؤلف قبل حدوث عملية «طوفان الأقصى» تطرح الكثير من التساؤلات حول مصير إسرائيل وحلفاء إسرائيل الآن وفي المستقبل بالنسبة لسقوط الجدران الصهيونية على رؤوس مدمري الأبنية وانهيار المنازل على رؤوس وأجساد الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ والمدنيين الآخرين في فلسطين بسبب القصف الإسرائيلي العشوائي الوحشي المتواصل المستخف بالقيم الإنسانية هناك.
وتمنى مناع أن تؤدي المآسي الإنسانية والأخلاقية التي تتكاثر هذه الأيام بسبب تفشي العنف وعدم الاكتراث لممارسته إلى اقتناع الناس بضرورة نشوء مجتمع مدني أخلاقي عالمي يعتبر اللاعنف الوسيلة الفضلى للتغيير.
ويذكر في القسم الوارد تحت عنوان: «اللاعنف في العالم العربي» بانه تعرض شخصياً للضرب والإهانة والاتهام بالعمالة لأنه وفي بعض مواقفه في سوريا، رفض الاعتبار بان إعدام الرئيس السوري سيحل مشكلة سوريا السياسية وطالب بمحاكمة عادلة لجميع المسؤولين هناك الذين ارتكبوا ممارسات مخالفة لحقوق الإنسان والديمقراطية في سوريا وغيرها.
ويعتبر المؤلف أن غزو العراق في عام 2003 ساهم في انقسام المعارضة السورية بين المراهنين على التدخل الخارجي والعنف، من جهة، والمراهنين على تحركات الشعب المدنية السلمية من دون الخارج في الجانب الآخر.
وفي قسم بعنوان «جريمة الحرب» يقول منّاع: «رغم فظاعتها ونتائجها المدمرة على البشرية والطبيعة والحياة، ما زالت الحرب من حيث المبدأ مقبولة في منطق الدول والمنظمات العالمية غير الحكومية، وما زال الانفاق على التسلح يمارس بكثافة. وتكفي المساعدة العسكرية التي تقدمها الولايات المتحدة لإسرائيل منذ حرب 1967 إلى عام 1997 وحدها لتأمين التعليم والمياه الصالحة وكثير من الحاجات الأساسية لكل المحرومين في العالم. كما ان تكاليف حربيّ الخليج الأخيرتين تساوي الحد المقبول للعيش لفقراء العالم الإسلامي في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين. ان الحرب بحد ذاتها جريمة ولا يكفي الحديث عن جرائم الحرب. كم من الشعوب أبيدت لان خيار السلام لم يُتخذ، وبقي قانون الغاب يُعطي الأقوى عسكرياً الحق في البقاء والهيمنة على الآخرين وعلى القرارات العالمية». (ص 95 و96).
ويختتم هذا القسم قائلاً: «حرّم النبي محمد (صلعم) قتل النفس غير المقاتلة والاعتداء على النساء والأطفال والشيوخ، والقرآن الكريم يحض على اعتماد مبدأ الحياد الإيجابي أي السعي للمصالحة في الحروب كمبدأ أول، ثم التدخل ضد الفئة الباغية في حال استمرارها في العدوان».ش
ويستخلص منّاع بان المطلوب هو القضاء على الهياكل الاجتماعية والسياسية التي تعيد إنتاج الصراعات والحروب. وهذه (برأيه) المهمة الرئيسية للمثقفين في العالم وفي تطوير قاموس سياسي واجتماعي (أطلس) في هذا المجال ومواجهة كل الحروب التي ضحاياها هم السكان المدنيون الأكثر جوعاً وفقراً. وبنظره، فإن بعض القراءات المنغلقة التكفيرية التي تطرحها بعض الجهات الإسلامية لا تشكل رداً على الطغيان العالمي التعسفي بقدر ما تعزز انتشاره (بوعي أو بدون وعي) والمطلوب في هذه المرحلة العمل على بناء الشخصية المتسامحة الواعية إزاء هذه الخطورة.
هيثم منّاع: «أطلس اللاعنف»