النضال اللاعنفي وثقافة اللاعنف
النضال اللاعنفي وثقافة اللاعنف
اعداد: موفق العلي
تمهيد:
لقد أدى استخدام العنف عبر التاريخ إلى ويلات ودمار، وهلاك أمم وشعوب، وسقوط دول وحضارات، ولم يكن العنف في يوم من الأيام وسيلة لنشر السعادة بين الناس. وإنما كانت وسيلة نشر السعادة والأمن هي السلام والتفاهم ونبذ العنف وتقبل الآخر.
والتوجه إلى اللاعنف، وسيلة للخروج من ويلات الحروب الأهلية والعالمية، ليس وليد العصر الحديث، وإنما له جذور قديمة قدم البشرية؛ فمنذ فجر البشرية، كان أحد ابني آدم (قابيل) مثالا على العنف المفرط، فقتل أخاه (هابيل) الذي كان مثالا على اللاعنف المطلق، فاستسلم له ولم يدافع عن نفسه. ولكن اللاعنف انتصر منذ البدء أيضاً، لأن التاريخ خلد لنا أن قابيل ندم على استخدامه للعنف، حيث جاء في القرآن الكريم: (فأصبح من النادمين).
تعريف اللاعنف:
اللاعنف هو عدم استخدام القوة، الجسدية او المعنوية لاستعادة الحقوق، أو لفرض التغيير والرأي والعقيدة على الآخرين. وهناك وسائل سلمية كثيرة يمكن الاعتماد عليها للتغيير والحصول على الحقوق المشروعة مثل: المظاهرات السلمية، والاعتصام والحصار والعصيان المدني العام. وقد وضع المشرعون للاعنف تعريفات متعددة، ولكنها متقاربة، منها:
1) اللاعنف: (ممارسة شخصية لا يؤذي الفرد فيها ذاته ولا الآخرين تحت أي ظرف)؛ اعتقاداً بأن الإيذاء لا يحقق أية نتيجة مرغوبة..
2) اللاعنف: (سلوك سياسي لا يمكن فصله عن القدرة الداخلية والروحية على التحكم بالذات) ويؤخذ عليه حصر اللاعنف بالجانب السياسي.
3) (شكل من التحرك السياسي يتميز بغياب كل تصرف عنيف). ويؤخذ عليه ما أخذ على التعريف الذي سبقه.
4) اللاعنف: (وسيلة من وسائل العمل السياسي والاجتماعي يحاول أن يجعل قوة الضعيف وملجأه الأخير مرتكزاً على إثارة الضمير والأخلاق لدى الخصم، أو على الأقل لدى الجمهور الذي يحيط به) ..
اللاعنف في النضال السياسي
ترى الكاتبة التونسية عواطف الزراد في كتابها: (اللاعنف في النضال السياسي) أنه لا يمكن الحديث عن معنى اللاعنف من دون استحضار معنى عدوِّه الحميم، العنف ؛ فقد نشأت أيديولوجية اللاعنف لتضع حدا لواقع العنف، ثم تحولت إلى فلسفة عامة تتبناها فئة تعد أسلوب اللاعنف قوة كبح للعنف المستشري بين البشر.
وأعطت الباحثة أمثلة على ذلك في نضالات الشعب الهندي ضد المستعمر البريطاني، ودور اللاعنف مع المهاتما غاندي في الوصول إلى هدفه في الاستقلال، كل ذلك عبْر اللاعنف أو ما يعرف بـ”الساتياغراها” أي (قوة الحق أو الثبات على الحقيقة).
كما استشهدت أيضاً بنضالات السود ضد التمييز العنصري في الولايات المتحدة، عبر القس مارتن لوثر كينغ، وكذلك نضالات السود في جنوب أفريقيا، عبر القائد نيلسون مانديلا. كما أشارت إلى ثورات الربيع العربي قبل أن يحولها العنف الذي ووجهت به إلى العنف.
وقدمت الباحثة، أمثلة لبدائل اللاعنف في النضال السياسي، عبر الفعل الرمزي، المتمثل في الاعتصامات والمسيرات والإضرابات، حتى وصلت إلى ما يسمى العصيان المدني والإضراب العام، وهذا أعلى درجات الاحتجاج، التي لها أثر كبير على الاقتصاد، مما يعجل بالتفاوض، أو سقوط الحكومات.
وعلى مثل هذه الفلسفة – فلسفة اللاعنف – اعتمد الكاتب المهجري اللبناني ناسك الشخروب: (ميخائيل نعيمة) في نظريته التي سماها (نظرية الحق المطلق) أي إن الحق سينتصر في النهاية، من دون استخدام القوة. فلما قيل له (إن اليهود استولوا على فلسطين بالقوة، ألا نستعيدها بالقوة؟. قال: فبماذا نختلف عنهم إن فعلنا مثلهم؟.) وهذا منطق عجيب.
وليس ببعيد عن هذه الفلسفة، فلسفة الشيخ الدكتور جودت سعيد، الذي انتقل من نظريته: (حتى يغيروا ما بأنفسهم) إلى نظريته: (عقيدة ابن آدم الأول) والتي تبناها من بعده تلميذه وصهره الدكتور الطبيب خالص جلبي كنجو، وتقوم على قوله تعالى: (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك…)
اللاعنف المطلق:
وقد تمادى بعض من راقتهم فكرة اللاعنف في طرح الفكرة في إطار غير صحيح، هو اللاعنف المطلق، وهو طرح مشوه لمفهوم اللاعنف. منشؤه عدم الفهم الصحيح لهذا المبدأ، أو هو طرح روَّج له أعداء اللاعنف ليكون حجة لهم للتنديد به.
وقد تحدث رائد اللاعنف غاندي عن هذه النقطة فميز بوضوح بين اللاعنف واللاعنف المطلق، وصرح باستبعاده لوجود فكرة اللاعنف المطلق قائلاً: (بما أننا لسنا أرواحاً طاهرة، فإن اللاعنف الكامل نظري تماماً، كخط إقليدس المستقيم).
وتستدرك الباحثة التونسية في مقاربتها، فتشير إلى خطورة اللاعنف المطلق، وبشكل مبالغ فيه، وتستشهد بعبارة ول ديورانت “فحتى الديمقراطية تدمر نفسها بالإفراط في الديمقراطية”. ويتماهى اللاعنف المطلق عند بعضهم مع الجبن والخوف والاستسلام، وسبق أن رفضه المهاتما غاندي . (الجزيرة).
إن اللاعنف يقف في مواجهة واقع عنيف، متمثل في واقع التسلح. فـ”الازدهار الذي تشهده تجارة الأسلحة يتعارض مع ضروب الحسم السلمي للصراعات، التي تدعو إليها التوجهات التي تتبنى اللاعنف في النضال السياسي”.
وعلى الرغم مما تضمنه ميثاق الأمم المتحدة من دعوة إلى النضال اللاعنفي، فإن الواقع على العكس، يتحرك وفق أساليب لا سلمية، حتى إن مجلس الأمن يتحرك بقوى أممية تجيز استخدام العنف، تحت شعارات “الحرب من أجل إحلال السلم”
ثقافة “اللاعنف” عربياً
مقدمة:
يقول حسن إسميك: نحن الآن أحوج ما نكون إلى إيجاد مخرج حقيقي من حالة الفوضى والعنف والإرهاب التي تتهددنا، ونجد أن ثقافة اللاعنف لا تزال بعيدة عن أذهان صانعي السياسات وقادة الرأي العام في معظم مجتمعاتنا العربية.
وعلى الرغم من أن ثقافة اللاعنف صارت فلسفة عالمية إلا أن تداولها في أوساطنا الثقافية والاجتماعية مازال خجولاً، والسبب في ذلك هو الخلط الواضح بين اللاعنف من جهة، والضعف والاستسلام من جهة أخرى. وقد نجحت ثقافة اللاعنف في التأسيس لحركات لاعنفية في مناطق مختلفة من العالم، كالنرويج والدنمارك وهولندا في مقاومة الاحتلال النازي، والتشيك والسلوفاك ضد السيطرة السوفياتية. وعلى الرغم من أن اللاعنف صار مصطلحا ثم فلسفة يضع نظرياتها قادة فكريون، فمازلنا نعاني في معظم بلداننا العربية من غياب الفلسفة. ونفتقد قائدا فكريا يكرس جهده لثقافة اللاعنف.
عوائق ثقافة اللاعنف:
تتزاحم العوامل التي تعيق تشكيل ثقافة لاعنفية لدينا، الأمر الذي يدفع بنا إلى الشك في إمكان حصولها قريباً. وإذا ما أردنا الحديث عن الأحزاب أو التنظيمات التي ينضوي تحتها الإنسان العربي، فسنجد أن معظمها لا يولي مسألة اللاعنف أهمية في خطابه، هذا إذا لم تكن تعتمد بشكل كامل على خطاب عنفي أو محرّض على العنف.
وتعاني مجتمعاتنا العربية من “شرعنة العنف”، فالثقافة السائدة تميل إلى تمجيد الحرب ووصفها بالأعمال البطولية. وأعتقد أن فشل ثورات “الربيع العربي” إنما يعود بالدرجة الأولى إلى غياب أرضية فكرية مؤسسة على ثقافة اللاعنف. ويرى ألبير كامو أن “الدفاع عن الحقيقة بواسطة العنف، هو البدء بإنكارها”.
وتعتبر الكاتبة عواطف الزراد أن جنوح النفس نحو العنف أسرع من ميلها إلى أساليب اللاعنف، وتُرجع ذلك اجتماعيا سيسيولوجياً إلى غياب مؤرخين للاعنف. أما سيكولوجياً فأنا أرجع ذلك بحسب المشاهدات الواقعية إلى أن وقوع الإنسان في الخطأ وحفظ الخطأ أسهل وأسرع، والبحث عن الصواب والتخلص من الخطأ هو أبطأ وأصعب. فالإهمال وعدم الانضباط أسهل، والنفس إليه أميل ؛ لأنها أميل إلى الراحة. والخطأ أحب إلى النفس وأقرب إليها من الصواب.. والعنف غلط واللاعنف صواب..
بين اللاعنف والعنف
لمعرفة (اللاعنف) لا بد من معرفة نقيضه (العنف) كما مر، فقد عرف العنف بأنه: (الغلظة والفظاظة في الأقوال أو الأفعال). كما عرف بأنه: (الانتهاك لممتلكات الآخرين والتعدي على أرزاقهم وحرياتهم) وهذا يمثل الوجه الاخلاقي للعنف، اما الوجه السياسي فهو (استخدام القوة بهدف الاستيلاء على السلطة أو الانعطاف بها نحو أهداف غير مشروعة).
ولقد أخطأ من حصر مبدأ اللاعنف في الميدان السياسي، حيث ورد في الموسوعة السياسية: (اللاعنف سلوك سياسي) وعرفه سيمون بانتر بأنه: (شكل من التحرك السياسي) ولكن حصر اللاعنف في الجانب السياسي تحجير لواسع. ونستطيع تعريف مبدأ اللاعنف فنقول: اللاعنف هو: (وسيلة من وسائل العمل السياسي والاجتماعي تستبعد القوة والتعدي على حقوق الآخرين في الوصول إلى أهدافها، وتقوم على أساس أخلاقي من الاعتراف بالآخر.
شروط اللاعنف
غالباً ما يوسم اللاعنفيون بأنهم أناس جبناء ، لجؤوا إلى اللاعنف بدافع من ضعفهم وعجزهم عن المواجهة. وعلى هذا يعد منهج اللاعنف منهج الخنوع والاستسلام. مع أن اللاعنفيين لم يطرحوا فكرتهم مطلقة، وإنما اشترطوا في (اللاعنف) ما يلي: ا- الوعي بالخطر المحدق والقدرة على مواجهته بالعنف إن لزم الأمر. 2- الوعي وضبط للنفس. فمبدأ اللاعنف صار غريباً على الفكر البشري. 3- عدم اعتماد اللاعنف وسيلة للدفاع من دون تنظيم وهيكلة. 4- اللاعنف لا يخدم قضية ظالمة، فدفاعه عن قضايا عادلة يكبح التعامل معه بالعنف.
الدين واللاعنف:
إن مبدأ اللاعنف هو مبدأ ديني أصلا، كما أن اللاعنفيين في غالبيتهم العظمى هم من المتدينين – بصرف النظر عن أديانهم أهي سماوية أم لا. ويمكن القول بكل ثقة بأن الأديان السماوية تحمل في ثناياها مبدأ اللاعنف؛ لأنها تصدر عن وحي السماحة والرحمة الإلهية، فهي لم تأت إلا بما يتضمن مصلحة البشرية ونفعها. فالله يعلم أثر الحسنى في تقبل رسالاته. لذا جاء في القرآن الكريم: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ…) (وجادلهم بالتي هي أحسن) وفي الانجيل: (وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، وأحسنوا إلى مبغضيكم) وفي التوراة: (لا تقتل.. لا تشتهي بيت قريبك) والإسلام يحاسب المرء على ما يُظهر لا على ما يُبطن. ففي الحديث: (هلا شققت عن قلبه؟.)
وقد حاول بعض المنظِّرين – جهلاً أو قصداً – أن ينسب إلى الأديان ما ليس منها ، سواء في ذلك التطرف في استعمال العنف، أو التطرف في اللاعنف المطلق ، فنسب إلى الدين ما يحط من قيمته. من قبيل ما نسب إلى السيد المسيح من قوله: (لا تقاوموا الشرير، بل من لطمك على خدك الأيمن، فاعرض له الآخر، ومن أراد أن يحاكمك ليأخذ قميصك فاترك رداءك أيضاً ومن سخرك أن تسير معه ميلاً واحداً، فسر معه ميلين) وهذا غريب على المسيحية، وقد نسبه إليها أولئك الذين حاولوا استغلال الدين المسيحي لتحقيق مصالحهم الشخصية، فهذا المستوى من الخضوع والاستسلام مرفوض حتى من قبل اللاعنفيين. فاللاعنف لا يتبنى العذاب الروحي؛ لأن هذه الروحانية هي روحانية خنوع لا روحانية خشوع، حيث تمجد الخيبة في الدنيا وكأنها ضمانة لكسب الآخرة. فلو سلمنا جدلاً بأنه جاء عن السيد المسيح قوله المتقدم، فلقد عهد عنه أيضا قوله: (من لم يكن له سيف فليبع رداءه ويشتريه).
خاتمة:
خلاصة القول: إن حركة اللاعنف هي حركة دينية أصلاً، أخذها الفلاسفة وبنوا عليها نظرياتهم الفلسفية. واللاعنف كالحرية مقيد وليس مطلقا. وخير ما يمثله قول الشاعر:
ووضع الندى في موضع السيف في العلا مضر كوضع السيف في موضع الندى