النضال اللاعنفي- تجارب واستراتيجيات
النضال اللاعنفي- تجارب واستراتيجيات
إعداد: جوليو
يعتبر الشعب بمثابة الحصى الذي يسند جرة الحكم، ومن هذا القول ندلف إلى موضوعنا.
إن الحكومات والأنظمة السياسية، تحتاج دوما إلى رضى الشعب ككل، وإذا لم يكن هناك قبول مجتمعي للسياسات المطبقة على الأرض، فسيؤدي هذا غالباً إلى مقاومة ونضال، إن بشكل عنيف أو على شكل نضال لا عنفي.
والنضال اللاعنفي يعتمد على قوة الجماهير وكثرتها. وثقافة اللاعنف، وليدة مرجعيات دينية في أصلها، فهي مأخوذة عن نصوص دينية سواء في الأديان الإبراهيمية (الإسلام والمسيحية واليهودية)، أو في تقاليد للأديان الأخرى (الهندوسية والبوذية والسيخية)، وعيرها من الأديان.
هذه المرجعية، تشكل أحد نقاط القوة لأغلب الحركات اللاعنفية.
والمدافعون عن اللاعنف استفادوا واستلهموا من تلك المبادئ الدينية. كذلك كان للحركات العلمانية إسهامات في تأسيس ثقافة اللاعنف، كبرنامج استراتيجي أو طرق برغماتية نفعية، تهتم بفلسفة اللاعنف بعيدا عن أصولها الدينية أو الأخلاقية.
لكن الانحياز إلى الجانب العنيف في النضال كان ولا يزال هو الجانب الأسهل والأسرع، وذلك بسبب عدم وجود مؤرخين حقيقين لحركات اللاعنف. حيث كان اهتمام مؤرخي الحركات التحررية، يصب في النضالات التي تنتهج العنف، في مقابل تجاهل النضالات اللاعنفية، ولهذا بقي مصطلح اللاعنف مغيَّباً، وأصبح الشكل الطبيعي للنضال المفيد هو النضال العنفي، وهو ما أدى إلى انحسار ثقافة النضال اللاعنفي، كما أن التمادي في سياسة العنف، جعل الشعوب تختاره كطريقة أسهل للتعبير، مستبعدة خيار النضال اللاعنفي، ولعل ذلك يعود إلى غياب قاموس شامل لمصطلحات اللاعنف، مما جعل رقعة اللاعنف أضيق، إلى أن جاء قاموس “جان ماري مللر” الذي قضى”35″عاماً في تأليفه، تلبية لحاجة ملحة لوجوده، ولكي يكون لثقافة اللاعنف وزن فعلي، فبدون شرح لغتها لا يمكن أن تحقق حضورها المطلوب.
كما الكاتبة عواطف الزراد تحدثت في كتابها “اللاعنف في الضال السياسي” عن الحقيقة المحزنة التي لمسها جون ماري مللر، والتي تعد بمثابة رثاء للإنسان اللاعنفي حيث قالت: “إن حكامنا لا يملكون من المال للأنفاق على الشعب وتثقيفه، لأنهم حولوا مواردهم المالية نحو الاستعداد للحرب القادمة”.
وهذا ليس مقتصراً على الدول القوية اقتصادياً أو الغنية فقط، بل ينطبق على الدول الفقيرة أيضا والتي تقوم بصرف ميزانيات ضخمة على التسلح، كالدول الافريقية.
تعززت فكرة اللاعنفية بعد نضالات الشعب الهندي ضد المستعمر البريطاني، وكان رمز هذا النضال، الزعيم غاندي الملقب “بالمهاتما”.
أسس غاندي ما عرف في عالم السياسة بـ”المقاومة السلمية” أو فلسفة اللاعنف (الساتيارها)
وهي تهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمحتل، عن طريق الوعي العميق بالخطر المحدق، وتكوين قوة قادرة على مواجهة هذا الخطر باللاعنف أولا، ولا يرجح اللجوء إلى العنف ضمن هذه الثقافة على الإطلاق.
ومن النضالات اللاعنفية التي وثقت على مر السنين؛ نضال السود ضد التميز العنصري في الولايات المتحدة الأميركية، عن طريق القس مارتن لوثر كينج، والتي انطلقت شرارتها عندما رفضت سيدة سوداء تدعى “روز باركس” التخلي عن مقعدها لراكب ابيض، مما جعل السائق يستدعي الشرطة ،التي القت بدورها القبض عليها بتهمة مخالفة القانون، وهذه كانت البداية الحقيقية لقضيته التي أطلقها عام”1955″.
وقد تم نشر سياسات النشاط اللاعنفي في عام “1973” وفقا لبحث اجراه المنظر الرائد في اللاعنف “جين شارب” حيث صنف “198” وسيلة من النشاط اللاعنفي موزعة على ثلاثة أقسام، أولها الاحتجاج والإقناع اللاعنفي، ويليها عدم التعاون (اجتماعي واقتصادي وسياسي) مختتما هذه الوسائل بوسيلة التدخل اللاعنفي.
بعد ظهور كل تلك النضالات اللاعنفية، أصبحنا نهتم كناشطين وناشطات بشكل أكبر بإيجاد أساليب لا عنفية نتفادى بها الخسائر البشرية والمادية ومنها:
أساليب الاحتجاج اللاعنفي والإقناع، منها البيانات الرسمية (كالخطابات العامة وخطابات المعارضة أو الدعم …)، والتواصل مع جمهور أوسع (مثل الشعارات أو الرسوم الكاريكاتورية والرموز واللافتات والملصقات ووسائل الإعلام المعروضة، كالصحف والمجلات والإذاعة والتلفزيون…)، وهناك تمثيل المجموعة (التفويضات والضغط الجماعي …)، والأفعال العامة الرمزية (عرض الأعلام والألوان الرمزية والصلاة والعبادة وتسليم الأشياء الرمزية…)، كما يتم الضغط على الأفراد عن طريق (مطاردة المسؤولين وتغير المسؤولين والتآخي والوقفات الاحتجاجية)، ويمكننا استخدام الدراما والموسيقا من خلال (التمثيليات والمقالب الفكاهية وعروض المسرحيات والموسيقى والغناء..)، أيضا من خلال المواكب كـ(المسيرات أو المواكب الدينية أو الحج …) والانسحاب والتنازل مثل ( التخلي عن الاوسمة و إدارة الظهر..).
واستخدام أساليب عدم التعاون الاجتماعي، مثل عدم التعاون مع المناسبات الاجتماعية والعادات والمؤسسات كـ (تعليق الأنشطة الاجتماعية وإضراب الطلاب والعصيان الاجتماعي ومقاطعة الشؤون الاجتماعية …)، الانسحاب من النظام الاجتماعي (كالبقاء في المنزل وهروب العمال..)، نبذ الأشخاص مثل (المقاطعة الاجتماعية او الحظر…).
واستخدام المقاطعة الاقتصادية كأحد أساليب عدم التعاون الاقتصادي، ومنها الإجراءات التي يتخذها المستهلكون كـ (مقاطعة المستهلكين وعدم استهلاك البضائع المقاطعَة، وحجب الإيجار …)، والعمل من قبل العمال والمنتجين مثل (مقاطعة العمال ومقاطعة المنتجين..)، والعمل من قبل الوسطاء كـ( مقاطعة الموردين والمتعاملين). الإجراءات من قبل المالكين والإدارة (مقاطعة التجار ورفض او بيع الممتلكات….)، الإجراءات التي تتخذها الحكومات (الحظر المحلي و القائمة السوداء للتجارة…)، ومن ـهم أساليب عدم التعاون الاقتصادي، هو الاضراب مثل إضرابات رمزية (الإضراب الاحتجاجي والخروج السريع ..)، والإضرابات الزراعية (إضراب الفلاحين وإضراب عمال المزارع…)، إضرابات من قبل مجموعات خاصة ،والإضرابات الصناعية العادية والإضرابات المقيدة كـ (الإضراب التفصيلي والإضراب الوفير ..) وهناك إضرابات الصناعات المتعددة كالإضراب العام.
وبالنسبة لعدم التعاون السياسي، هناك رفض السلطة مثل: (حجب أو سحب الولاء، ورفض الدعم العام …)، وعدم تعاون المواطنين مع الحكومة (مقاطعة الهيئات التشريعية ومقاطعة الانتخابات …)، بدائل المواطنين للطاعة (الاعتصام وعدم التعاون مع التجنيد الإجباري، والترحيل والعصيان المدني للقوانين “غير الشرعية”…)، وهناك الإجراءات التي يتخذها موظفو الحكومة مثل (المماطلة والعرقلة وعدم التعاون الإداري العام …)، والعمل الحكومي المحلي كـ (التهرب والتأخير شبه القانوني، وعدم التعاون من قبل الوحدات الحكومية المكونة…)، والعمل الحكومي الدولي مثل (التغيرات في التمثيل الدبلوماسي وغيرها، وتأخير وإلغاء الأحداث الدبلوماسية …)،
ومن تصنيفات أساليب التدخل اللاعنفي، التدخل النفسي كـ (الاضراب عن الطعام والتحرش اللاعنفي …)، والتدخل الجسدي مثل (الاعتصام…)، والتدخل الاجتماعي مثل (إنشاء أنماط اجتماعية جديدة والتحميل الزائد على المرافق والمماطلة..)، والتدخل الاقتصادي كـ (الإضراب العكسي والإضراب عن العمل …)، التدخل السياسي (كالعصيان المدني للقوانين المحايدة والسيادة المزدوجة والحكومة الموازية).
وبذلك نكون قد تطرقنا لذكر فئة واسعة من الأساليب التي تم تطويرها فيما بعد جائحة كورونا حيث توجب على النشطاء تطوير استراتيجياتهم عام “2021” للتدخل اللاعنفي وذلك عن طريق حشد الأشخاص للقيام ببث مباشر، أو تبادل الملفات الرقمية، وتسجيلات الوصول على سبيل المثال، وتفعيل تقنية هاشتاغ والعديد من الطرق الأخرى. وقد تحدث عنها “مايكل بير” مدير منظمة اللاعنف الدولية الناشئة عام “1991”.
وفقاً لما قمنا بالحديث عنه فمن الصعب جداً اعتماد منهج لا عنفي محدد في النضالات، كونها تتطلب دراسة عميقة وتجريب مستمر لعدة أساليب للوصول للنهج المناسب لنيل المطالب، وقد تمارسه الشعوب بشكل عفوي دون وعي بفكرة النضال اللاعنفي، كما نرى في الأحداث الأخيرة في سوريا عام”2023″ ضمن الحراك الشعبي الذي قامت به بعض المدن لاسيما مدينة السويداء التي احتجت واعتصمت بشكل سلمي ضمن ساحتها، بعيداً عن أي تدخل للعنف والأسلحة، مما أجبر الحكومة على عدم اتخاذ إجراءات سلبية ضدهم، علماً أنهم اتبعوا أساليب متعددة كالإضراب التام والاعتصام والعصيان المدني وإغلاق المؤسسات الحكومية بشكل سلمي.
ولكن يبقى هناك أهمية كبيرة لدراسة اللاعنف بشكل موسع لاسيما استراتيجياتها وسياساتها.