المجتمع المدني ودوره في إنجاز التحول الديمقراطي
المجتمع المدني ودوره في إنجاز التحول الديمقراطي
إعداد: ريم الزعبي
الديمقراطية
لفظ متعدد المعاني يمت إلى العواطف ببعض الصلة، إذ رأى فيه بعض الناس لواء خفاقاً يدعوهم إلى الانضواء تحته، لا لفظاً علمياً جامداً خالياً من العاطفة،
ورأى فيه البعض الآخر خرافة عتيقة، ذهبت روعتها وأبلى الزمان جلدتها، ذات صلات بالرأسمالية والاستعمار.
ورأى فيه آخرون، الوسيلة الوحيدة للوصول إلى الحرية والعدالة والمساواة.
ونجد في تعريف الديمقراطية، أنها أحد المثل العليا المعترف بها عالمياً، والقائمة على قيم مشتركة تتبادلها الشعوب في مختلف أنحاء العالم، بغض النظر عن الاختلافات الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية والعرقية.
وكما هو معترف به في إعلان وبرامج عمل -ڤيينا-؛ تقوم الديمقراطية على إدارة الشعب المعبّر عنها بحرية، لتقرير نظمه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومشاركته التامة في جميع جوانب حياته. وأن الديمقراطية والتنمية وسيادة القانون العام واحترام حقوق الانسان والحريات الأساسية، أمور مترابطة، وأن الهدف الأسمى لوجود الديمقراطية، يتجلى في الحفاظ على كرامة الفرد وحقوقه الأساسية وتعزيزها وتحقيق العدالة الاجتماعية لدى أفراد المجتمع ككل، والتشجيع على التنمية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع، وتعزيز التماسك المجتمعي، وبناء طرق تواصل تهدف إلى توطيد الأمان الوطني، وإرساء مناخ ملائم للسلام الدولي والعالمي.
و تعتبر الديمقراطية شكلاً من أشكال الحكم، ومرجعاً أساسياً للجميع، لحماية الحقوق وتوفر البيئة المناسبة لممارسة هذه الحقوق بشكل فعلي ومنظّم .
واليوم وبعد مضي فترة على تحقيق الديمقراطية في الكثير من بلدان العالم، تبين أنّ العديد من النظم الديمقراطية تتراجع، وأنّ بعض الدول تتعمد إضعاف إجراء عمليات تحقيق مستقلة بشأن سلطاتها، والقضاء على أي نقد، وتفكيك الرقابة الديمقراطية، وضمان حكمها لمدة طويلة، مما يؤثر سلباً على حقوق الشعب.
وعلى مدى سنوات سعت الجمعية العامة للأمم المتحدة ولجنة حقوق الإنسان إلى الاستفادة من الصكوك الدولية لحقوق الإنسان، من أجل تركيز فهم مشترك لمبادئ الديمقراطية وقيمتها.
ففي العام ٢٠٠٢ أعلنت اللجنة في القرار رقم ٢٢/٢٠٠٢ أن العناصر الأساسية تتضمن:
احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية، بما في ذلك حرية الرأي والتعبير، وحرية تكوين الجماعات، وإمكانية الحصول على السلطة وممارستها، بمقتضى سيادة القانون، وعقد انتخابات دورية حرة وعادلة بالاقتراع العام وبالتصويت السري، كوسيلة للتعبير عن إرادة الشعب ، ووجود نظام تعددية الأحزاب والمنظمات السياسية وفصل السلطات واستقلال القضاء والشفافية والمساءلة في الإدارة العامة وحرية وسائل الاعلام والصحافة واستقلالها وتعددها.
وقد بات تعزيز ثقافة الديمقراطية المبنية على التسامح والحق بالاختلاف، ضرورة مُلحّة وهذا يتطلب تفعيل دورها بشكل أكبر.
وتعد المشاركة الشعبية في السياسة، من أهم مقومات الديمقراطية .
مشاركة أفراد الشعب في صنع القرارات السياسية الداخلية والخارجية، من خلال التصويت المباشر أو غير المباشر، ومن خلال انتخاب ممثليه في مجلس الشعب، الأحزاب المختلفة، لأن أعضاء مجلس الشعب، هم صوت الشعب ولسان حاله، ويقع على عاتقهم إيصال مشاكل الشعب السياسة والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، إلى الجهات المختصة والمسؤولة، لإصلاح العيوب وتلافي الثغرات في مؤسسات الدولة والمجتمع ككل.
وإذا ما سلمنا بأن الأساس المعياري لبنية المجتمع المدني يكمن أصلاً في طوعية العمل والإدارة السلمية للصراع بين الجماعات المتنافسة أو المصالح المتضاربة؛ فإن ذلك يؤكد على علاقة وثيقة بين المجتمع المدني والتحول الديمقراطي، وإرساء دعائم الديمقراطية، بشكل يضمن لأفراد المجتمع تحقيق العدالة والمساواة، ويكفل احترام حقوق الإنسان.
والديمقراطية نظام اجتماعي يؤكد قيمة الفرد، فكرامة الشخصية الإنسانية تقوم على أساس مشاركة أعضاء الجماعة في إدارة شؤونها.
إن الديمقراطية منجز حضاري وصل إليه الإنسان بعد كفاح مرير مع الجور والتعسف والتسلّط الذي مارسه عليه الحكام، سواء كان ذلك أثناء حكم الدول الديكتاتورية، أو بعد قيام الدولة الحديثة بمكبلاتها الجمّة التي تستهدف السيطرة على مقدرات البشر.
وحيث أن المجتمع المدني من خلال تنظيماته التطوعية المستقلة عن الدولة، يهدف إلى تقديم خدمات اجتماعية للمواطنين، لممارسة أنشطة إنسانية متنوعة، في إطار الالتزام بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح والمشاركة والإدارة السلمية للتنوّع والاختلاف، فإنّ جوهر دور المجتمع المدني هو تنظيم وتفعيل مشاركة الناس في تقرير مصيرهم ومواجهة السياسات التي تؤثر في معيشتهم وتزيد من وعيهم، وكذلك نشر ثقافة خلق المبادرة الذاتية، وثقافة بناء المؤسسات التي تؤكد على إدارة المواطنين في العمل التاريخي الذي تتطلبه الحياة الحرّة الكريمة للأفراد.
إنّ الاعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام ١٩٤٨عندما ننظر إليه من زاوية الديمقراطية، نرى بأنّه يؤكد على أنّ إرادة الشعب هي مصدر لسلطة الحكومة (مادة ٢١ فقرة ٣)،
والمجتمع المدني يلعب دوراً حاسماً في الديمقراطية وتصب مساهمته في مسارين
الأول :
تسيير حركة المجتمع المدني للديمقراطية ومؤسساته.
الثاني :
وقاية المجتمع المدني للنظام الديمقراطي، والعمل على تحقيق الرفاهية والتقدم. حيث يتم تكريس التغيير في الدولة كاستجابة للقضايا الاجتماعية.
لقد غدا المجتمع المدني خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين، صوتاً قوياً في قاموس تطور البشرية، وعاملاً مؤثراً في الديمقراطية، وإذا ما كان المجتمع بأبعاده المختلفة ووظائفه التي أضحت ضرورة حياتية لابد منها، والدولة السياسية بمؤسساتها وقوانينها صنوان متلازمان، فإن الديمقراطية هي القاسم المشترك الذي يؤكد حتمية قيام منظمات المجتمع المدني، بما يساهم في تطور المجتمع وتقدمه، حسب منهج وأسلوب العمل الذي تتخذه المنظمات تلك، سواء في تطور المجتمع أو تفعيل مشاركته في صنع وتنفيذ القرار بما يساهم في تعزيز دوره بشكل فاعل.
و يذهب البعض الى أنه خلال العقود الثلاثة الأخيرة، أخذ مفهوم المجتمع المدني حيّزاً مهماً في مجال أدبيات السياسة، وارتبطت مكانته في الفضاء العام للدولة، بالتحولات الديمقراطية فيها، ونشأت علاقة جديَّة بين تطور المجتمع وتطور الحالة الديمقراطية، وبين نكوصهما أيضاً. فإذا تجذرت أسس الديمقراطية في الدولة أصبحت منظمات المجتمع المدني أقوى، والعكس صحيح. وتشهد عملية التحول الديمقراطي في الدولة على أساس إبراز دور المجتمع المدني في صيانة الحريات الأساسية للمجتمع. وتتلخص بعض مهام تلك المؤسسات، في نشر ثقافة حقوق الإنسان بين الجماهير، وتوعية المجتمع بأفراده وتشكيلاته المحلية وأطره الجماهيرية والنقابية، بمزايا نظام الحكم الديمقراطي، ونشر ثقافة التسامح وقبول الآخر، وفضح الممارسات غير القانونية في مؤسسات الدول .
ويؤكد البعض على أن هناك صلة قوية بين المجتمع المدني والتحول الديمقراطي ، فالديمقراطية مجموعة قواعد الحكم و مؤسساته، التي تنظم من خلالها الإدارة السلمية للصراع في المجتمع بين الجماعات المنافسة أو المصالح المتضاربة، وهذا هو نفس أساس المعياري للمجتمع المدني، حيث نلاحظ أن مؤسسات المجتمع المدني من أهم قنوات المشاركة الشعبية، ورغم أنها لا تمارس نشاطاً سياسياً مباشراً، ولا تسعى للوصول إلى السلطة السياسية؛ إلا أن أعضائها هم أكثر قطاعات المجتمع استعداداً للانخراط في الأنشطة الديمقراطية السياسية.
ويلاحظ الدارسون والمراقبون، أن فشل التحول الديمقراطي في الوطن العربي، يرجع إلى غياب أو توقف نمو المجتمع المدني، وما يبثه من تعزيز القيم الديمقراطية، وازدهار ثقافة مدنية وديمقراطية، توجه سلوك المواطنين في المجتمع، وتهيئهم للمشاركة في الصراع السياسي.
ويمر الوطن العربي بشكل عام حسب ما يرى البعض، بعمليتي بناء مجتمع مدني وتحول ديمقراطي في نفس الوقت، والصلة بين العمليتين قوية، بل هي أقرب إلى أن تكون عملية واحدة من حيث صلب الموضوع. ففي الوقت الذي ينمو فيه المجتمع بتكويناته الاجتماعية والاقتصادية الحديثة، فإنها تخلق منها تنظيمات مجتمعها المدني، تسعى بدورها إلى توسيع دعائم المشاركة في الحكم. ولا يمكن تحقيق الديمقراطية السياسية في أي مجتمع، مالم تصبح منظمات المجتمع المدني ديمقراطية بالفعل، باعتبارها البنية التحتية للديمقراطية كنظام للحياة في المجتمع، بما تضمه من نقابات وتعاونيات و جمعيات أهلية وروابط ومنظمات نسائية وشبابية إلخ..
حيث توفر هذه المؤسسات في حياتها الداخلية فرصة كبيرة لتربية ملايين المواطنين ديمقراطياً، وتدريبهم عملياً، لاكتساب الخبرة اللازمة لممارسة الديمقراطية في المجتمع الأكبر، بما تتيحه لأعضائها من مجالات واسعة للممارسة والتربية الديمقراطية من خلال المشاركة التطوعية بالعمل العام، و ممارسة نشاط جماعي في إطار حقوق وواجبات محددة للعضوية، والتعبير عن الرأي والاستماع للرأي الآخر، والمشاركة باتخاذ القرار، والمشاركة في اختيار قيادات المؤسسة أو الجمعية، والقبول بنتائج الاختيار، و المشاركة في تحديد أهداف النشاط وأولوياته، والرقابة على الأداء وتقيمه. وبذلك يقوم المجتمع المدني ببناء الديمقراطية على مستويين أولهما ثقافي؛ يتحقق من خلالهما نهوض مؤسساته بوظائفها الأساسية بالمجتمع، وثانيهما تربوي؛ يتحقق من خلال الممارسة الديمقراطية والتدريب العملي على الأساليب الديمقراطية في الحياة الداخلية لمؤسسات المجتمع المدني.
ولعل من أهم الوظائف التي تقوم بها مؤسسات المجتمع المدني، إشاعة ثقافة مدنية و ديمقراطية ، ترسي في المجتمع الدافعية للعمل التطوعي والعمل الجماعي، وقبول الاختلاف والتنوع بين الذات والآخر، وإدارة الخلاف بوسائل سليمة، في ضوء قيم الاحترام والتسامح والتعاون والتنافس والصراع السلمي، مع الالتزام بالمحاسبة العامة والشفافية، و ما ينجم عن ذلك من تأكيد قيم المبادرة الذاتية، وثقافة بناء المؤسسات، وهي قيم في مجملها تمثل قيماً ديمقراطية.
ومن هنا فإن إشاعة الثقافة المدنية التي تمكن لهذه القيم في المجتمع، هي خطوة مهمة على طريق التطور الديمقراطي، حيث يستحيل بناء مجتمع مدني دون توفير صيغ سلمية لإدارة الاختلاف والتنافس والصراع، طبقاً لقواعد متفق عليها بين جميع الأطراف. ويستحيل بناء مجتمع مدني دون الاعتراف بالحقوق الأساسية للإنسان، خاصةً حرية الاعتقاد والرأي والتعبير، ومن ثم فإن دور المجتمع المدني في إشاعة الثقافة المدنية بهذا المفهوم، هو تطوير ودعم للتحول الديمقراطي. ويتأكد دور المجتمع المدني أيضاً في نشر هذه الثقافة، من خلال الحياة الداخلية لمؤسساته التي ترعى وتنشئ الأعضاء على هذه القيم، وتدربهم عليها عملياً من خلال الممارسة اليومية.
نستخلص مما سبق، أن دور منظمات المجتمع المدني، وما يرمي إليه من تحقيق آمال وطموحات أفراد المجتمع، والاستجابة لمطالبهم، لا يتعارض مع دور مؤسسات الدولة، كما يظن البعض، بل هو مكمل لها، حيث يساهم المجتمع المدني مع الدولة في تحقيق الأهداف العامة، المتمثلة في تنظيم العلاقات الاجتماعية والسياسية بشكل ديمقراطي فاعل، ويضع القواعد والمعايير التي تحكم سلوك الافراد والجماعات، بالشكل الذي يوفق بينهم رغم مطالبهم ومصالحهم المتنوعة والمختلفة بل والمتعارضة أحياناً، وذلك عن طريق توفير الوسائل السلمية للتعبير عنها، ووضع البدائل المنطقية أمام السلطة السياسية لتحقيق أعلى درجة من التوازن، بين الحقوق والواجبات، يمكِّن من الحفاظ على الكيان الاجتماعي والنظام الاجتماعي العام.